سورة الواقعة - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الواقعة)


        


{إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} قامت القيامة. وقيل: وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة فكأنه قيل: إذا وقعت الواقعة التي لا بد من وقوعها. ووقوع الأمر نزوله يقال: وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله. وانتصاب {إِذَا} بإضمار (اذكر) {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} نفس كاذبة أي لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله وتكذب في تكذيب الغيب لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات. واللام مثلها في قوله تعالى: {ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى} [الفجر: 24] {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي هي خافضة رافعة ترفع أقواماً وتضع آخرين {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً} حركت تحريكاً شديداً حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء، وهو بدل من {إِذَا وَقَعَتِ}، ويجوز أن ينتصب ب {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبسّ الجبال {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} وفتتت حتى تعود كالسويق أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها كقوله: {وَسُيّرَتِ الجبال} [النبأ: 20] {فَكَانَتْ هَبَاء} غباراً {مُّنبَثّاً} متفرقاً {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً} أصنافاً يقال للأصناف التي بعضها من بعض أو يذكر بعضها من بعض أزواج {ثلاثة} صنفان في الجنة وصنف في النار.
ثم فسر الأزواج فقال: {فأصحاب الميمنة} مبتدأ وهم الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم {مَا أصحاب الميمنة} مبتدأ وخبر وهما خبر المبتدأ الأول، وهو تعجيب من حالهم في السعادة وتعظيم لشأنهم كأنه قال: ما هم وأي شيء هم؟ {وأصحاب المشئمة} أي الذين يؤتون صحائفهم بشمائلهم أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة من قولك: فلان مني باليمين وفلان مني بالشمال إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة، وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل. وقيل: يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال {مَا أصحاب المشئمة} أي أيُّ شيء هم؟ وهو تعجيب من حالهم بالشقاء {والسابقون} مبتدأ {السابقون} خبره تقديره السابقون إلى الخيرات السابقون إلى الجنات. وقيل: الثاني تأكيد للأول والخبر {أُوْلَئِكَ المقربون} والأول أوجه {فِي جنات النعيم} أي هم في جنات النعيم {ثُلَّةٌ مّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين} أي هم ثلة، والثلة الأمة من الناس الكثيرة، والمعنى أن المسابقين كثير من الأولين وهم الأمم من لدن آدم إلى نبينا محمد عليهما السلام، وقليل من الآخرين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: من الأولين من متقدمي هذه الأمة، ومن الآخرين من متأخريها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الثلتان جميعاً من أمتي». {على سُرُرٍ} جمع سرير ككثيب وكثب {مَّوْضُونَةٍ} مرمولة ومنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {على} وهو العامل فيها أي استقروا عليها متكئين {عَلَيْهَا متقابلين} ينظر بعضهم في وجوه بعض ولا ينظر بعضهم في أقفاء بعض، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة و{متقابلين} حال أيضاً {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} يخدمهم {ولدان} غلمان جمع وليد {مُّخَلَّدُونَ} مبقّون أبداً على شكل الولدان لا يتحولون عنه.
وقيل: مقرّطون والخلدة القرط. قيل: هم أولاد أهل الدنيا لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها، وفي الحديث: «أولاد الكفار خدام أهل الجنة» {بِأَكْوَابٍ} جمع كوب وهي آنية لا عروة لها ولا خرطوم {وَأَبَارِيقَ} جمع إبريق وهو ماله خرطوم وعروة {وَكَأْسٍ} وقدح فيه شراب وإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس {مّن مَّعِينٍ} من خمر تجري من العيون {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها أو لا يفرقون عنها {وَلاَ يُنزِفُونَ} ولا يسكرون. نزف الرجل ذهب عقله بالسكر. {وَلاَ يُنزِفُونَ} بكسر الزاي: كوفي أي لا ينفد شرابهم. يقال: أنزف القوم إذا فني شرابهم {وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} يأخذون خيره وأفضله.
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} يتمنون {وَحُورٌ} جمع حوراء {عِينٌ} جمع عيناء أي وفيها حور عين أو ولهم حور عين، ويجوز أن يكون عطفاً على {ولدان} {وَحُورٌ}: يزيد وحمزة وعلي عطفاً على {جنات النعيم} كأنه قال: هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم وحورٍ {كأمثال اللؤلؤ} في الصفاء والنقاء {المكنون} المصون. وقال الزجاج: كأمثال الدر حين يخرج من صدفه لم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} جزاء مفعول له أي يفعل بهم ذلك كله لجزاء أعمالهم أو مصدر أي يجزون جزاء.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا} في الجنة {لَغْواً} باطلاً {وَلاَ تَأْثِيماً} هذياناً {إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما} إلا قولاً ذا سلامة. والاستثناء منقطع و{سَلاَماً} بدل من {قِيلاً} أو مفعول به ل {قِيلاً} أي لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً. والمعنى أنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلاماً بعد سلام {وأصحاب اليمين مَا أصحاب اليمين * فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} السدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له كأنما خضد شوكه {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} الطلح شجر الموز والمنضود الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه فليست له ساق بارزة {وَظِلّ مَّمْدُودٍ} ممتد منبسط كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} جار بلا حد ولا خد أي يجري على الأرض في غير أخدود {وفاكهة كَثِيرَةٍ} أي كثيرة الأجناس {لاَّ مَقْطُوعَةٍ} لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا بل هي دائمة {وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} لا تمنع عن متناولها بوجه. وقيل: لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} رفيعة القدر أو نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة. وقيل: هي النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك قال الله تعالى: {هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ} [يس: 56]. ويدل عليه قوله.


{إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء} ابتدأنا خلقهن ابتداء من غير ولادة، فإما أن يراد اللاتي ابتدئ انشاؤهن أو اللاتي أعيد انشاؤهن، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهن لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن {فجعلناهن أبكارا} عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً {عُرُباً} {عرْباً} حمزة وخلف ويحيى وحماد جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل {أَتْرَاباً} مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين وأزواجهن كذلك، واللام في {لأصحاب اليمين} من صلة {أَنشَأْنَا} {ثُلَّةٌ} أي أصحاب اليمين ثلة {مّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين} فإن قلت: كيف قال قبل هذا {وَقِيلَ مَنْ الآخرين} ثم قال هنا {وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين}؟ قلت: ذاك في السابقين وهذا في أصحاب اليمين، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً. وعن الحسن: سابقوا الأمم أكثر من سابقي أمتنا، وتابعوا الأُمم مثل تابعي هذه الأمة.
{وأصحاب الشمال مَا أصحاب الشمال} الشمال والمشأمة واحدة {فِى سَمُومٍ} في حر نار ينفذ في المسام {وَحَمِيمٍ} وماء حار متناهي الحرارة {وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ} من دخان أسود {لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} نفي لصفتي الظل عنه يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال سماه ظلا، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه، والمعنى أنه ظل حار ضار {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ} أي في الدنيا {مُتْرَفِينَ} منعمين فمنعهم ذلك من الانزجار وشغلهم عن الاعتبار {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ} يداومون {عَلَى الحنث العظيم} أي على الذنب العظيم أو على الشرك لأنه نقض عهد الميثاق، والحنث نقض العهد المؤكد باليمين أو الكفر بالبعث بدليل قوله {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] {وَكَانُواْ يِقُولُونَ * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} تقديره: أنبعث إذا متنا؟ وهو العامل في الظرف، وجاز حذفه إذ {مَّبْعُوثُونَ} يدل عليه، ولا يعمل فيه {مَّبْعُوثُونَ} لأن (إن) والاستفهام يمنعان أن يعمل ما بعدهما فيما قبلهما {أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون} دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف وحسن العطف على المضمر في {لَمَبْعُوثُونَ} من غير توكيد ب (نحن) للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله {مَا أَشْرَكْنَا وَلآ ءَابَآؤُنَا} [الأنعام: 148] لفصل لا المؤكدة للنفي. {أَوَ ءابَاؤُنَا} مدني وشامي.
{قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة بمعنى (من) كخاتم فضة، والميقات ما وقت به الشيء أي حد ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون} عن الهدى {المكذبون} بالبعث وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ} {من} لابتداء الغاية {مّن زَقُّومٍ} {من} لبيان الشجر {فَمَالِئَونَ مِنْهَا البطون فشاربون عَلَيْهِ مِنَ الحميم} أنث ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في منها وعليه.
{فشاربون شُرْبَ} بضم الشين: مدني وعاصم وحمزة وسهل، وبفتح الشين: غيرهم وهما مصدران {الهيم} هي إبل عطاش لا تروى جمع أهيم وهيماء، والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل، فإذا ملئوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم. وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين {هذا نُزُلُهُمْ} هو الرزق الذي يعد للناس تكرمة له {يَوْمِ الدين} يوم الجزاء {نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ} فهلا {تُصَدّقُونَ} تحضيض على التصديق فكأنهم مكذبون به، وإما بالبعث لأن من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً.
{أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} ما تمنونه أي تقذفونه في الأرحام من النطف {ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} تقدرونه وتصورونه وتجعلونه بشراً سوياً {أَم نَحْنُ الخالقون نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} تقديراً قسمناه عليكم قسمة الأرزاق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط {قَدَّرْنَآ} بالتخفيف: مكي سبقته بالشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه، فمعنى قوله {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم} إنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه. و{أمثالكم} جمع مثل أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق {وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها يعني أنا نقدر على الأمرين جميعاً: على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ويجوز أن يكون {أمثالكم} جمع مثل أي على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} {النشاءة} مكي وأبو عمرو {فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} أن من قدر على شيء مرة لم يمتنع عليه ثانياً، وفيه دليل صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.
{أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ما تحرثونه من الطعام أي تثيرون الأرض وتلقون فيها البذر {ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبتونه وتردونه نباتاً {أَمْ نَحْنُ الزرعون} المنبتون وفي الحديث: «لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت» {لَّوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حطاما} هشيماً متكسراً قبل إدراكه {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} تعجبون أو تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها {إِنَّاْ} أي تقولون إنا {أئنا} أبو بكر {لَمُغْرَمُونَ} لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك {بَلْ نَحْنُ} قوم {مَحْرُومُونَ} محارفون محدودون لا مجدودون لا حظ لنا ولا بخت لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا هذا.


{أَفَرَءيْتُمُ الماء الذى تَشْرَبُونَ} أي الماء العذب الصالح للشرب {ءأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} السحاب الأبيض وهو أعذب ماء {أَمْ نَحْنُ المنزلون} بقدرتنا {لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجاً} ملحاً أو مراً لا يقدر على شربه {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} فهلا تشكرون. ودخلت اللام على جواب لو في قوله {لَجَعَلْنَاهُ حطاما} ونزعت منه هنا، لأن (لو) لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة الشرط ك (إن) ولا عاملة مثلها وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في مضموني جملتيها، أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علماً على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علماً على ذلك، ولما شهر موقعه لم يبال بإسقاطه عن اللفظ لعلم كل أحد به وتساوي حالي حذفه وإثباته، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغنٍ عن ذكرها ثانية، ولأن هذه اللام تفيد معنى التأكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب.
{أَفَرَءيْتُمُ النار التى تُورُونَ} تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة شبهوهما بالفحل والطروقة {ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} التي منها الزناد {أَم نَحْنُ المنشئون} الخالقون لها ابتداء {نَحْنُ جعلناها} أي النار {تَذْكِرَةٌ} تذكيراً لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به {ومتاعا} ومنفعة {لّلْمُقْوِينَ} للمسافرين النازلين في القواء وهي القفر، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام من قولهم (أقوت الدار) إذا خلت من ساكنيها. بدأ بذكر خلق الإنسان فقال: {أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم، ثم بما فيه قوامه وهو الحب فقال: {أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ثم بما يعجن به ويشرب عليه وهو الماء، ثم بما يخبز به وهو النار، فحصول الطعام بمجموع الثلاثة ولا يستغني عنه الجسد ما دام حياً {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ} فنزه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل، أو أراد بالاسم الذكر أي فسبح بذكر ربك {العظيم} صفة للمضاف أو للمضاف إليه. وقيل: قل سبحان ربي العظيم وجاء مرفوعاً أنه لما نزلت هذه الآية قال: اجعلوها في ركوعكم.
{فَلاَ أُقْسِمُ} أي فأقسم و(لا) مزيدة مؤكدة مثلها قوله {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب}
[الحديد: 29] وقرئ {فلأقسم} ومعناه فلأَنا أقسم، اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر وهي (أنا أقسم)، ثم حذف المبتدأ. ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأن حقها أن تكون اللام لام القسم لأن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة {بمواقع النجوم} بمساقطها ومغاربها {بموقع} حمزة وعلي، ولعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً مخصوصة عظيمة أو للملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المتهجدين ونزول الرحمة والرضوان عليهم فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} وهو اعتراض في اعتراض لأنه اعترض به بين القسم والمقسم عليه وهو قوله {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ} حسن مرضي أو نفاع جم المنافع أو كريم على الله، واعترض ب {لَّوْ تَعْلَمُونَ} بين الموصوف وصفته {فِى كتاب} أي اللوح المحفوظ {مَّكْنُونٌ} مصون عن أن يأتيه الباطل أو من غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} من جميع الأدناس أدناس الذنوب وغيرها إن جعلت الجملة صفة ل {كتاب مَّكْنُونٍ} وهو اللوح، وإن جعلتها صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس والمراد مس المكتوب منه {تَنزِيلَ} صفة رابعة للقرآن أي منزل {مِن رَّبّ العالمين} أو وصف بالمصدر لأنه نزل نجوماً من بين سائر كتب الله فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه فقيل: جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل، أو هو تنزيل على حذف المبتدأ.
{أفبهذا الحديث} أي القرآن {أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} متهاونون به كمن يدهن في بعض الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} أي تجعلون شكر رزقكم التكذيب أي وضعتم التكذيب موضع الشكر. وفي قراءة علي رضي الله عنه وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به. وقيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليهم والرزق المطر أي وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله حيث تنسبونه إلى النجوم.
{فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ} النفس أي الروح عند الموت {الحلقوم} ممر الطعام والشراب {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} الخطاب لمن حضر الميت تلك الساعة {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} إلى المحتضر {مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} لا تعقلون ولا تعلمون {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم {تَرْجِعُونَهَا} تردون النفس وهي الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم {إِن كُنتُمْ صادقين} أنكم غير مربوبين مقهورين. {فَلَوْلا} في الآيتين للتحضيض يستدعي فعلاً وذا قوله {تَرْجِعُونَهَا} واكتفى بذكره مرة، وترتيب الآية فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين، و{فَلَوْلا} الثانية مكررة للتأكيد ونحن أقرب إليه منكم يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا أو بملائكة الموت، والمعنى أنكم في جحودكم آيات الله في كل شيء، إن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولاً صادقاً قلتم ساحر كذاب، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمة قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد؟.
{فَأَمَّا إِن كَانَ} المتوفي {مِنَ المقربين} من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة {فَرَوْحٌ} فله استراحة {وَرَيْحَانٌ} ورزق {وجنات نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين * فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} أي فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله {إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما} {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين} هم الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة وهم الذين قيل لهم في هذه السورة {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون} {فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي إدخال فيها. وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة، وأن أصحاب الكبائر من أصحاب اليمين لأنهم غير مكذبين {إِنَّ هَذَا} الذي أنزل في هذه السورة {لَهُوَ حَقُّ اليقين} أي الحق الثابت من اليقين {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} رُوي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته فقال له: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي. فقال: ما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا تدعو الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. فقال: ألا نأمر بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: ندفعه إلى بناتك. قال: لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً» وليس في هذه السور الثلاث ذكر الله: اقتربت، الرحمن، الواقعة، والله أعلم.